كيف توظّف صنعاء التطور العسكري في السياسة؟

عباس الجمري

الاستعراض العسكري للقوات المسلحة اليمنية جعل السعودية في وضعية المحاصر بين فكي كماشة، وجعل الساحة مفتوحة على التكهنات.

 

الاستعراض العسكري للقوات المسلحة اليمنية جعل السعودية في وضعية المحاصر بين فكي كماشة

 

لم تكن الهدنة التي وافقت عليها صنعاء والتي دخل سريانها منذ مطلع نيسان/أبريل الماضي مجرد هدنة لإدخال المحروقات وإنعاش الوضع المعيشي في البلد المنكوب، ولو كان الأمر كذلك لما جددت صنعاء موافقتها على التمديد، بسب تلكؤ السعودية في أداء التزاماتها. لكن المفاجأة التي لم يتوقعها الغرب فضلاً عن الخليج، أن يعيد اليمنيون صفوفهم على نحو أكثر تنظيماً وإحكاماً عما كان عليه في بدء الحرب التي اشتعلت قبل سبع سنوات، وهو أمر ثقيل على خصوم صنعاء.

 

المفاجأة ليست في شكل الاستعراض العسكري والأمني الذي أدّته وحدات من الجيش والشرطة وحسب، بل في انخراط اللجان الشعبية في الأجهزة الأمنية، لتلغى تسمية اللجان الشعبية، إشارة إلى وصول صنعاء إلى الطريقة المتعارف عليها دولياً في تشكيل الجيوش وبناء وحداتها، وبناء أجهزتها الأمنية. وليس ذلك فحسب، بل إن استعراض أسلحة استراتيجية للدولة اليمنية، ومن صنع محلي وبخبرات محلية، هو ما يشكل هالة من الدهشة لجيرانها الذين يملكون المال والاستقرار، ولا يملكون تصنيعاً عسكرياً يضاهي ما لدى صنعاء.

 

العرض العسكري الذي شهدته صنعاء يوم الأربعاء في 21 أيلول/سبتمبر الجاري في ساحة السبعين، وقبله العرض العسكري “وعد الآخرة” في مطلع أيلول، كل ذلك بمثابة دق جرس إنذار خليجي وغربي وإسرائيلي أيضاً يمكن اختصاره بهذا السؤال: ماذا بعد انتهاء الحرب على اليمن وانتعاش حكومة صنعاء اقتصادياً ومالياً؟

 

خصوصاً أن المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة اليمينة العميد، يحيى سريع، قال في تعليقه على عرض “وعد الآخرة”: إنها رسالة جاهزية كاملة للأعداء، وأكد الرئيس مهدي المشاط أن كل نقطة في البحر الأحمر يمكن أن تضربها القوات المسلحة اليمنية من أي نقطة في اليمن.

 

الرسائل عديدة، منها ما يعكس امتلاك الكثافة النارية، ومنها ما ينبئ بكيفية مختلفة ستدير أي مواجهة مقبلة، وهي الصبغة التي ستلوّن ساحة القتال لو حصلت، أما في العمق، فإن العرض العسكري على امتداد شهر أيلول/سبتمبر يؤكد بطريقة عملانية أن اليمن متفوق في التجهيز العسكري على نظرائه الخليجيين، وإن كانت ميزانيته أقل.

 

تأتي هذه الرسائل تترى في ظل عوق سعودي إماراتي مزدوج عن إعادة الحرب بالزخم السابق، ذلك لأن اليمني في يده التحكم بأسعار النفط العالمية فيما لو أعيدت فتح الجبهات من جهة، ومن جهة أخرى فإن بناء الترسانة اليمنية في الأشهر القليلة الماضية بوصل الليل بالنهار في عمل دؤوب وكبير جداً أثقل المشهد وعقّده أكثر من ذي قبل، عقّده سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً.

 

الخليجيون، وعلى رأسهم السعودية، لا يستطيعون الرجوع إلى خيار الحرب المفتوحة، لأنهم يحتاجون إلى هذه الفسحة من الزمن من دون ضربات توجع أذرعهم النفطية، ومن غير أن يتلقوا قصفاً ينهك عمود بنيتهم التحتية، وعليه فإن اليمنيين بنوا معادلة صعبة ومزدوجة وهي كالتالي:

 

إن أعيدت الحرب فالجاهزية موجودة، وإن استمرت الهدنة، مع ما فيها من خروق، فستتيح لليمنيين البناء أكثر، واليد التي تبني ليست غارقة في البناء العسكري، وغافلة عن الحقول الأخرى، فقد دشن اليمن في هذه الفترة شبكة الجيل الرابع (يمن 4 جي)، وقد افتتح الرئيس المشاط هذه الخدمة، التي تمتد من صنعاء إلى الحديدة وذمار وبعض المناطق الأخرى، إلى جانب عدد من المشروعات التي لم يسلط الإعلام عليها.

 

وفي المقابل، هناك قراءة أخرى للمشهد المستجد في اليمن تقول، إن تلك التطورات العسكرية التي كشف عنها، والتي تنبئ باختلاف الموازين في أي مواجهة مقبلة، قد تقود السعودية، ومن ورائها الغرب، إلى تشديد الحصار، وأن تجعل اليمن معلقاً بين حالتي السلم والحرب، وأن تزيد من وجع المجاعة، وتترك الحكومة في صنعاء بلا حدود بحرية مفتوحة للتجارة واستيراد المواد الأساسية، ما يثقل كاهل المسؤولين اليمنيين، ويزيد أعباءهم في ظل التضخم والغلاء وحالة إنسانية منهكة.

 

هذه القراءة تفترض أن اليمن سيكون مأسوراً بربقة الهدنة “الكاذبة” التي تحتجز سفن المشتقات النفطية، ولا تخفف معاناة الناس، فهل يصبر اليمنيون إلى ما لا نهاية على هدنة كهذه؟ هذا هو السؤال الأساسي في افتراض كهذا.

 

من المستبعد أن تنساق صنعاء إلى مماطلة لانهائية في مسألة جدية الهدنة، بل من المؤكد، بحسب فهم عقلية اليمنيين طوال السنوات السبع الماضية، أن جدولة البناء هي ما بدأ به مجلس القيادة، في كل خطوة بناء عسكري ومدني، وكل ذلك محسوب بمسطرة الاستفادة من ذلك التعمير فيما لو تقرر أن تكسر القوات المسلحة حصار البحر الأحمر وباب المندب.

 

لنلاحظ أمراً، وهو أن عرض الأسلحة البحرية لاقى حضوراً مهماً عند المحللين العسكريين، ومن اللافت أن ثمة تطوراً في صناعة الصواريخ البحرية، التي تعد، بحسب خبراء عسكريين، أصعب تصنيعاً من غيرها، لما للبحر والرياح والعمق وما شابه من تأثير. والإعلان عن تلك الصواريخ والتركيز على أن اليمن قادر على تغطية كل نقطة في البحر الأحمر، لا يشيان بأن اليمن سيصمت طويلاً على الهدنة ما لم تدخل في جدية تفي الالتزامات المقررة التي أشرفت عليها الأمم المتحدة منذ نيسان/أبريل، والسعودية والإمارات هما من خرقتا الاتفاق.

 

وبالتالي فإن الاستعراض العسكري جعل السعودية في وضعية المحاصر بين فكي كماشة، وجعل الساحة مفتوحة على التكهنات التي لن تفيد أحداً إلا الذي يمتلك الجاهزية الكاملة لأداء ما عليه من واجبات المواجهة.

 

 

مقالات ذات صلة